الأحد، 11 ديسمبر 2016

شرح الحديث الأول: من الأربعين النووية، للشيخ الفاضل :يعقوب البنا حفظه الله تعالى

              بسم الله الرحمن الرحيم

                    الدرس الأول

    من شرح ڪتاب:  الأربعين النووية

للشيخ:  يعقوب البنا حفظه الله تعالى

    في مجموعة:  تعليم السنة
 

إن الحمد لله،نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1 ـ 2]

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء 1].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 70-71]
ً أمابعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهَدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتُها وڪلَّ محدثة بدعةٌ وكلَّ بدعة ضلالةٌ وكلَّ ضلالة في النار
أمابعد:
فسنبدأ بإذن الله عز وجل الأربعين للإمام النووي رحمه الله، والنووي معروف هو يحي بن شَرَف النووي الملقب بمحي الدين
وكان يكره هذا اللقب، النووي شافعيُّ المذهب، له مصنفاة كثيرة من أشهرها شرحه لصحيح مسلم، والمجموع شرح المهذب، والأذكار وغيرها من الكتب التي ألفها رحمه الله.
بدأ النووي رحمه الله الأربعين بحديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات»،
اقتداءً بمن قبله من العلماء كالبخاري الذي بدأ أيضاً كتابه "الجامع الصحيح" بهذا الحديث، وكذالك صاحب "العمدة" الحافظ المقدسي بدأ بهذا الحديث، والنووي أيضا بدأ بهذا الحديث في كتاب آخر له وهو "رياض الصالحين"،
وهذا يدل على أهمية هذا الحديث،
وأقوال العلماء معروفة في بيان أهمية حديث عمر رضي الله عنه، يقول عبد الرحمن بنُ مَهْدي رحمه الله: «لو صَنفتُ الأبواب لجعلتُ حديث عمر رضي الله عنه إنما الأعمال بالنيات في كل باب»، ويقول أيضا رحمه الله: «من أراد أن يُصنِّف كتابا فليبدأ بحديث إنما الأعمال بالنيات»،

لماذا يبدأ العلماء مصنفاتهم بهذا الحديث:
أولا: اقتداءً بأهل العلم.
ثانياً: ليَسْتَشْعِـر الحافظُ والقارئُ والدارسُ والمتعلم مسألة الإخلاص، على القارئ والحافظِ والدارسِ أن يستشعر الإخلاص في كل عمل إذا بدأ فيه، وأيضا يقول الشافعي رحمه الله: «هذا الحديث ثلثُ العلم ويَدخلُ في سبعين بابا من الفقه»، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: «أصول الدين على ثلاثة أحاديث؛ حديثِ عمرَ رضي الله عنه "إنما الأعمال بالنيات"، وحديثِ عائشةَ رضي الله عنها "مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"، وحديثِ النُّعمانِ بن بَشير رضي الله عنهما "إن الحلال بـَيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما أمور مُشتبهات"»، وكذلك يقول أبو داود رحمه الله: «نَظرتُ في الحديث المسند –أي في الحديث الصحيح– فإذا هو أربعةُ آلافِ حديثٍ، ثم نظرتُ فإذا مَدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث؛ حديثِ "إنما الأعمال بالنيات"، وحديثِ "إن الحلال بيِّن والحرام بين"، وحديثِ "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، وحديثِ "مِن حُسن إسلام المَرء تركُـه ما لا يعنيه"، وأيضا يقول رحمه الله: «الفقه يدور على خمسة أحاديث "إنما الأعمال بالنيات" وحديث "إن الحلال بين والحرام بين" وحديث "لاضرر ولاضِرار" وحديث "وما نَـهَيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" وحديث "الدين النصيحة".
فهذا الحديث «إنما الأعمال بالنيات» عليه مدار الإسلام ويدور الدين عليه، يقول بعض العلماء: هذا الحديث نِصف الدين لأنه أصلٌ في أعمال القلوب، ولأن النيات من أعمال القلوب، إذن هذا الحديث نصف الدين أي نصف العبادات، لماذا قلنا أن هذا الحديث نصف العبادات؛ لأن العبادة لا تقوم إلا على أساسين عظمين: الإخلاص والمتابعة.
فالإخلاص يدل عليه حديث عمر رضي الله عنه، والمتابعة يدل عليها حديث عائشة رضي الله عنها «مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»،
حديث عمر رضي الله عنه إنما الأعمال بالنيات ميزان  للأعمال الباطنة،
وحديث عائشة رضي الله عنها مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ميزان للأعمال الظاهرة، فمن أخَلَّ بالحديث الأول؛ يعني بحديث عمر رضي الله عنه وقع في الشرك، أو في النفاق، أو الرياء والسمعة، ومن أخل بحديث عائشة رضي الله عنها وقع في البدع والمحدثات، إذن لابد أن نهتم بهذين الحديثين؛ لأن الدين والمقصود بالدين هنا العمل، لأن الدين لايصح والعمل لايصح إلا بالإخلاص والمتابعة.

يقول عمر رضي الله عنه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّما الأعمالُ بِالنِّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَىَ، فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللَّهِ ورسُوله فهجرتُهُ إِلى اللَّهِ ورسُوله ومَنْ كانتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أو امْرأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إِلى ما هاجَرَ إليهِ» .
فقوله عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) {إنما} هذه أداةُ حَصرٍ، أي لا عمل إلا بنيَّة، ولهذا يقول بعض العلماء: لو كَلَّفَنا الله عز وجل عملا بلا نية لكان من تَـكليفِ ما لايُطاق .
{الأعمال} جمع عمل، والعمل هنا يَشمل جميع الأعمال، كأعمال القلوب مثل الخوف والرهبة والخشية والرجاء والرغبة والتوكل والإنابة إلى آخره، وأعمالِ النُّطق وما أكثر ما يتكلم الإنسان، والأعمال التي فيها حركة كأعمال الجوارح؛ السمع والبصر واليدين والرجلين، وسائر الأعمال التي تتعلق بالجوارح .
قوله {بالنيات} جمع نِـيَّة، والنية في اللغة القَصد، وشرعا العزم على فعل العبادة تقرُّبا إلى الله تعالى، وفي الحقيقة إذا تكلم أهل التوحيد عن النية فإنهم يقصدون نية المعمول له، أي أنت تعمل لمن ؟؟ تعمل لله أو لغيره ؟؟
فإذا تكلم أهل التوحيد فإنهم يقصدون نية المعمول له، وإذا تكلم الفقهاء عن النية فإنهم يقصدون نية العمل .
أولا: نتكلم عن المسألة الأولى نية المعمول له، يعني أنت في أي عبادة وأي عمل تعمل لمن؟ لله أو لغيره؟، هل تبتغي بذلك العمل وجه الله أو وجه الناس وثناء الناس؟
فإذا أردت بعملك وجه الله كنت مخلصا يقول تعالى(لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) أي لا تريد ثناء ولامدحا من الناس، وإنما تبتغي بعملك وجه الله، فمن أخل بهذا الحديث وقع في الشرك، أو في الرياء والسمعة، ولهذا قال عز وجل في الحديث القُدْسي «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»، كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوفَ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء ثم يقول الله عزوجل يوم القيامة إذا جَزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا –يقول الله عزوجل اذهبوا إليهم– فهل تجدون عندهم جزاء»، الجواب: لا، لايجدون عندهم شيئا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الرياء، يقول عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، قالوا: بلى يارسول الله، قال: الشرك الخفي»، ثم فسر عليه الصلاة والسلام ما معنى الشرك الخفي فقال: «يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لما يَرى من نظر رجل إليه»
وهنا مسألة: إذا رائَى العبدُ في صلاته أو في عبادته هل تبطل عبادته أم لا ؟
المسألة فيها تفصيل: إذا كان الرياء في أصل العبادة فإنه يُبطلها، أي أنه مثلا ما قام يُصلي إلا رياء وسمعة، ما قام يقرأ القرآن إلا رياء وسمعة، فهذا عمل فاسد؛ لأنه فَـقَدَ الشرط الأول، وإن دخل الرياء دخولا طارئا مثلا: قام يصلي لله في أول الأمر، أول مابدأ الصلاة صلى لله، لكنْ دخل في أثناء صلاته فلانٌ من الناس، فبـدأ يُحسِّن صلاته، كأن يتباكى أو يطيل الركوع أو يطيل السجود، فهذا القسم ينقسم إلى أقسام:

إن دَفَع الرياء فلا يضره؛ لأن الإنسان قد يأتيه الشيطان فيوسوس له، يقول له أنت ترائِي، أنت تعمل لفلان وفلان، حَسِّن من صلاتك، فإن دفع هذا الرياء فلا يضره إن شاءالله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ماحدَّثتْ أنفُسُها ما لم تتكلم أو تعمل».
وإن استرسل مع هذا الرياء فننظر إلى العبادة إذا كانت آخرُ العبادة مبنية على أولها، بحيث لا يَصح آخرها مع فساد أولها أو العكس، يعني العبادة واحدة كالصلاة مثلا؛ فإذا وقع الرياء في الركعة الأولى أو الثانية، ثم استرسل ولم يدفعه فَسَدت، وأيضا لو وقع في آخر الصلاة قبل السلام فسدت، لأن العبادة مبنية بعضها على بعض. وأما إن كانت آخر العبادة ليست مبنية على أولها أي آخر العبادة منفصلة عن أولها، فالعمل مردود حيث وقع الرياء فقط، مثلا تصدقت على فلان بعشر دراهم لم تُراء، وإنما ابتغيتَ وجه الله، لكن بعد ذلك دخل فلان آخر أو الأول في وقت آخر، فأردتَ الثناء والمدح وأخرجت مثلا مئة درهم، وأنت تريد من ذلك أن يقال عنك أنك جواد وكريم، فالصدقة الأولى صحيحة ومقبولة؛ لأنك أخلصت فيها، أما الثانية فمردودة لأنك أردت بها غير وجه الله .
أما الرياء الذي يَطرأ بعد الفراغ من العبادة فإن هذا لايضر؛ لأن هذا وسواس من الشيطان، والعبادة لم يقع فيها الرياء .
وهل الإنسان إذا فرح بعلم الناس عن عبادته هل تبطل عبادته أو لا ؟؟
على سبيل المثال الناس عَلِموا أنك تقرأ في اليوم مثلا جُزأين، أو أنك تصلي كذا وكذا من الركعات ساعات طوال من الليل تصلي، أو أنك مثلا تصوم الإثنين والخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، تصوم أيام البيض، هل يُؤثر هذا على العبادة ؟؟
الجواب: لا، لا يُؤثر لأن هذا الرياء جاء بعد الفراغ من العبادة، فلا يضر إن شاءالله.
وهل إذا فرح الإنسان بعبادته يكون مُرائِيًا ؟؟
الجواب: لا، ف
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "مَن سَرَّته حسناته وسَاءَته سيئاته فذلك المؤمن"، أي يفرح الإنسان بعمله وبعبادته وبطاعته، قال عليه الصلاة والسلام" تلك عاجل بُشرَى المؤمن" .

إذن نية المعمول له، ثم نية العمل وهو كلام الفقهاء.
أولا: النية محلها القلب في أي عبادة من العبادات، لا يجوز التلفظ بالنية لا في الصلاة ولا في غيرها، لا نقول كما نسمع من العوام (إني نويت أن أصلي صلاة العشاء أربع ركعات تقربا إلى الله تعالى...) لأن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، فمن تلفظ بالنية أتى ببدعة، وأتى بشيء لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم، فالنية القصد، فالله عز وجل يعلم أنك أتيت لتصلي، ولم تأتِ لتؤديَ حركات؛ قيام ونزول وانحناء والتفات عن يمين وعن شِمال، يعلم سبحانه وتعالى ما في قلبك، يعلم مَقصدك، فلا حاجة إلى أن تتلفظ بالنية.
ونية العمل عند الفقهاء تُستعمل لتمييز العبادات بعضِها عن بعض، مثلا فلان يصلي ركعتين وفلان يصلي ركعتين، فالعمل واحد، والعبادة واحدة، لكنَّ النية غيَّرت بين العملين، هذا يصلي الفرض والآخر يصلي النَّفل، ما الذي مَيَّز بين العبادتين؟ النية.
مثال آخر: فلان يصوم وفلان يصوم ،الأول يصوم القضاء، والآخر يصوم الإثنين والخميس، العبادة واحدة، والعمل واحد، لكن الذي ميَّزَ بين العبادتين النية، فلان يغتسل وفلان يغتسل، لكن هذا يغتسل للجمعة، وذاك يغتسل للجنابة ليرفع الحدث الأكبر عنه، إذن العمل واحد لكن الذي ميز هذه العبادة عن الأخرى النية.
أيضا تمييز العبادات عن العادات مثال ذلك فلان يغتسل وفلان يغتسل، هذا يغتسل غسل الجنابة عَمَّم الماء على جسده ، فهذا الغسل غسل عبادة، وفلان آخر يغتسل غسل النظافة، قد عمم الماء على جسده، فهذا الغسل غسل عادة وليس غسل عبادة مع أنَّ العمل واحد والصفة واحدة في الغسل، مالذي فرَّق بين الغسلين؟ النية، وأيضا كما يقال عادات أهل اليقظة عبادات، وعبادات أهل الغفلة عادات، ما معنى هذا الكلام ؟
عادات أهل اليقظة عبادات: أي دائما يَحتسب الأمر، مُتيقظ ليس بغافل، يكتسب في العادة الأجر، إذَا أكل يحتسب أنه يأكل ليتقوى على طاعة الله، يُأجرُ على هذه العادة، هذه عادة لكن لما كان يحتسب أجر .
فعادات أهل اليقظة عبادات، ينام مبكرا لماذا؟ حتى يقوم لصلاة الفجر، وحتى يستعيد نشاطه لطاعة الله، لأن الإنسان لو بقي على سهره ولم ينم سيشعر بالتعب والكسل والإرهاق، لا يستطيع أن يفعل شيئا، إذن ينام من أجل أن يستعيد نشاطه، إذن حوَّل العادة إلى عبادة وهكذا، فلان يتعامل مع الناس بالطِّيب هذه عادة، يتكلم مع فلان وفلان، لكن لمّا احتسب الأجر على ذلك، وقصدَ مثلا إدخال السرور على قلب أخيه المسلم أُجِر.
وعبادات أهل الغفلة عادات: فلان غافل ساهي لاهي، مشغول بالدنيا وبكذا وكذا، لمّا يأتي إلى الصلاة يصلي؛ يركع ويسجد ويتشهد والذهن في الخارج، أصبح كأن هذه العبادة عادة عنده، لا يخشع في صلاته أبدا، لمّا يذكر ربه بعد الصلاة يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين .... ، يذكر هكذا؛ غافل لا يدري ما يقول كأنه جهاز، إذن هذه فائدة النية أنه يُؤجر على نيته إذا احتسب الأجر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أنفق أحدكم على أهله نفقة وهو يحتسبها كان له صدقة".
وأيضا النية الصالحة لا تشفع العمل السيئ، كيف ذلك؟
نذكر لكم حالات النية مع العمل فهي لا تخلو من أربع حالات:
الحالة الأولى:النية الصالحة والعمل الصالح، فالعمل يكون صحيحا .
الحالة الثانية: النية فاسدة والعمل فاسد، فالعمل غير صحيح .
الحالة الثالثة: النية الصالحة والعمل فاسد، فالعمل غير صحيح.
كيف يكون العمل فاسدا ؟ بالمثال يتضح المقصود: رجل يريد أن يتقرب إلى الله، ويريد وجه الله، هذه نية صالحة، لكن ما اهتدى إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أتى بالأذكار بعد الصلاة على غير سُنة، فالعمل غير صحيح، ولهذا ذكرنا حديث عائشة رضي الله عنها : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
مثال آخر للنية الصالحة والعمل الفاسد: فلان نيته صالحة، لكن عمله فاسد يقول : قبل أن آتيَ إلى الصلاة مثلا أستمع في البيت إلى موسيقى؛ هادئة حتى أخرج بسكينة ووقار وأخشع في صلاتي، نعم، النية صالحة، يريد أن يخشع في صلاته، هذه نية صالحة، لكن العمل غير صالح، يكون هذا العمل مردودا،
لأن سماع الأغاني والموسيقى حرام، ولو كانت الموسيقى هادئة، ولو كانت الموسيقى ليس فيها طرب، فهذه الموسيقى حرام، وإن خلت من المُجُون، فهي هادئة وليس فيها طرب فهي حرام أيضا، فإذن هذا العمل غير صحيح ولو كانت النية صالحة.
الحالة الرابعة: النية فاسدة والعمل صالح، فالعمل غير صحيح، العمل على سنة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم لكن النية لغير الله، يريد مثلا ثناء الناس، فهذا العمل غير صحيح.
يقول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (وإنما لكل امرئ ما نوى) قال بعض العلماء: الجملتان بمعنى واحد، وأن الجملة الثانية (وإنما لكل امرئ ما نوى) تأكيد للجملة الأولى، والصحيح أنّ بين الجملتين فرقا، هذه الجملة -الجملة الثانية- فيها بيان أن الناس يتفاوتون في الأعمال من أجل النيات، كل إنسان يُجازَى على عمله بقدر نيته، كلما ازداد العبد إخلاصا لله عز وجل، كان أعظمَ أجرا عند الله عز وجل، وأكثر تقربا إلى الله عز وجل، بحسب نيته، وأيضا بحسب اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلان يصلي وفلان يصلي، فلان يشير بإصبعه السبابة في التشهد وفلان لا يشير، لا شك أن الأول أكثر أجرا؛ فلان يضم رجليه وقدميه في السجود، يتبـع ويتحرى السنة في صلاته أكثر من غيره، هذا أكثر أجرا، فلان يرفع يديه عندما يقوم من الركوع أو عندما يركع، يُأجر على رفع اليدين، الناس يتفاوتون كما بين السماء والأرض.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) هنا أراد عليه الصلاة السلام أن يبين أن بين الناس فرقا في نياتهم، كما بين السماء والأرض، وكما بين المشرق والمغرب، فمنهم من أراد الدنيا، ومنهم من أراد الآخرة، أما من أراد الآخرة فهجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا، يريد رضا الله، ورضا النبي صلى الله عليه وسلم، فينالُ رضا الله ورضا النبي صلى الله عليه وسلم، وينال الأجر من عند الله عز وجل؛ لأنه أخلص النية لله تعالى، وأما القسم الثاني "ومن كانت هجرتة لدنيا يصيبها" أي لشهوة البطن، مثل المال الزائل الفاني، هذا الحُطام الفاني،  كعمل أو جاه أو منصب، ثم قال: "أو امرأة ينكحها" هذا في شهوة الفرْج تأمل! في قوله "فهجرته إلى ما هاجر إليه"، في المرة الأولى قال: "فهجرته إلى الله ورسوله"، أما هنا قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه"، أي تحقيراً لذلك، وأيضا لانحطاط مرتبة الدنيا وقدر الدنيا.
ذكر عليه الصلاة والسلام ( إلى ما هاجر إليه) والهجرة في اللغة الترك
أما في الشرع على ثلاثة معاني، أو تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
١-هجرة العمل
٢-هجرة العامل
٣-وهجرة المكان

أولا هجرة العمل :أي أنك تهجُر جميع الأعمال التي تُغضب رب العالمين، والمهاجر كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، وأعظم النهي وأكبر النهي على الإطلاق الشرك بالله والكفر به، والشرك شرك أكبر وشرك أصغر، والكفر كذلك كفر أكبر وكفر أصغر، أعظم المعاصي الشرك والكفر، أما البدع المُكفِّـرة فهي داخلة في الكفر الأكبر والشرك الأكبر، فبعد الشرك والكفر البدع الغير مكفرة، ثم الكبائر، ثم الصغائر، اجتنب ما نهى الله عنه، تجتنب هذه الأمور؛ هذا هو المهاجر الحقيقي الذي يجتنب الفواحش والكبائر والذنوب والآثام.
وهجرة العامل: أي هجْرُ وترك مَن يرتكب المعاصي، ومن يرتكب الفواحش، فمن ارتكب الفواحش والمعاصي هذا تتركه، وتبتعد عنه أشد البعد حتى لا يعاديك، حتى لا تنجر وتنخدع بأمره، لكن للأسف الشديد نجد أن أغلب الناس لمّا يهجر أخاه المسلم يهجره من أجل الدنيا، من أجل حُطام الدنيا، وهذا لا يجوز ولا يحل إلا لثلاثة أيام فقط، أما بعد ثلاثة أيام يكون الهجر محرما، تهجر أخاك لا تسلم عليه ولا تكلمه من أجل الدنيا، هذا محرم، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام" كما في الصحيحين من حديث أبي أيوب، أغلب الناس يهجر أخاه من أجل حطام الدنيا، هذا لايجوز إلا لثلاثة أيام فقط حتى تهدأ الأمور، والشخص يراجع نفسه، ثم لابد أن يكلم أحدهما الآخر، والذي يبدأ بالسلام هو الذي يُكتب له الأجر الأعظم عند الله عز وجل، أما بالنسبة للهجر من أجل الدين فيجب على الإنسان أن يهجر الفاسق والعاصي الذي يعصي الله، يبتعد عنه، ولكن هل يكلمه أو لا ؟ هذا على حسب الحال:
–إن كان في هجره ردع وزجر فيهجره، مثلا: لايكلم فلانا ولايسلم عليه، بل يعرض عنه سواء كان الإبن أو الأخ أو الجار أو الزميل في العمل، مثلا وجده على معصية من المعاصي، هذا تبتعد عنه وتبغض ماهو عليه من العمل والمعصية، وهذا الهجر أي الإعراض عنه وعدم الكلام معه إذا كان فيه فائدة ومصلحة، وزجر له وتأديب.
–وأما إن كان هجرك له يجعله يزداد في طغيانه، ويتجاوز حده، ويتمادى في باطله، هذا لافائدة في هجره، هذا يكرر معه النصيحة، يناصح وتكثر مِن إسْداءِالنصيحة له.
إذن يجوز الهجر إن كان على معصية الله حتى يرجع ويتوب إلى الله عزوجل، فإذا رجع وتاب فلا بأس أن تكلمه، ترجع وتسلم عليه وتكلمه، أما إذا بقي على المعصية فلك أن تهجره، عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ذكر حديثا لابنه؛ ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عدم منع النساء من مساجد الله ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «لاتمنعوا إِمَاءَ الله مساجد الله» قال بلال: والله لنمنعهن وقال عبد الله: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتقول إني لأمنعهن والله لا أكلمك أبدا، فما كلمه حتى مات، أنظر لأنه قال: والله لنمنعهن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاتمنعوا إماء الله»، وهو يقول: والله لنمنعهن فما كلَّمه حتى مات، إذن إن كان في الهجر زجر وردع، فنعم.
وأما هجر المبتدع فعلى الإطلاق؛ المبتدعة لايجالسون ولايكلمون ولايؤخذ منهم العلم ولاكرامة، وآثار السلف في مفاصلة ومجانبة أهل البدع والأهواء كثيرة، كيف تخالط المبتدع ألا تخشى أن يُعْدِيك، فالمبتدع مريض مرضا معدي، ألا تخشى أن يعديك الآن لو فلان من الناس عنده مرض معدي، هل ستقترب منه وتُسَلم عليه، الجواب: لا، فمرض البدع والأهواء أضر على العبد من مرض الأبدان، الحذر من أهل الأهواء والبدع، إذن هجر العمل وهجر العامل.
وهجر المكان: وهو المقصود من الهجر في الحديث، تهجرُ المكان الذي فيه الكفر والشرك والمعاصي، المكان الذي لا تستطيع أن تقيم شعائر الإسلام، كالصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيدين؛ الفطر والأضحى، ولهذا وقعت الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم  ثلاث مرات، مرتين إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ من مكة إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاهجرة بعد الفتح»؛ لأن مكة صارت بلد إسلاميا ودخل أهلها في الإسلام لكن عليه الصلاة والسلام بيَّن أن الهجرة باقية ومستمرة، فقال: «لاتنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها»، يعني إذا أسلم الكافر وهو في بلاد الكفر ولايستطيع أن يُظهر دينه، وشعائر الإسلام، فيجب أن يهجر هذا المكان، لابد أن يهاجر  إلى بلد يستطيع أن يقيم شعائر الدين، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وغيرها من شعائر الإسلام الظاهرة، وكذلك إذا كان العبد في مكان فيه فجور وفسق ومعاصي يخاف على دينه، فيخرج ليحفظ دينه، الإنسان يبتعد دائما عن أماكن المعاصي والشهوات حتى لايَنْجَر.

هنا مسألة: ماحكم السفر الى بلاد الكفار ؟؟ لايجوز إلا بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون لدى الإنسان علم حتى يدفع به شبهات القوم، لأن أهل الكفر وأهل الشرك يُورِدون على أهل الإسلام الشبهات، فالعبد ينجر وينخدع بهم، مثلا يذهب فلان إلى بلد من بلاد الكفر دينهم دين النصارى، فيورد بعض أهل تلك البلاد عليه شبهة بل شبها، مثلاً يقول عيسى عليه السلام هو الله أو هو ثالث ثلاثة أو أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، يقول وهذا في القرآن، تقول له أين في القرآن أن عيسى ابن الله وأنه هو الله، يقول "وكلمته ألقاها إلى مريم" -يحفظ- يقول "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" أي روح من الله، والإنسان الذي ليس عنده علم يتعجب من هذا الأمر، هذه شبهة عظيمة، قد تدخل الشكوك في قلبه بهذه الشبهة، لأنه يخالطه ويجالسه ويشاركه في المأكل والمشرب، فلابد من الحذر من أهل الأهواء، والمقصود من الآية (وروح منه) أي روح مخلوقة نسبَها الله إليه لشرف هذه الروح، كما نسب الكعبة إليه . بيت الله لشرف هذه الكعبة، وأيضا ناقة الله نسب الناقة إليه لشرف هذه الناقة وهكذا، العبد إذا كان عنده علم يستطيع أن يدفع شبهات أولـٰئك القوم، الشرط الأول أن يكون لديه علم حتى يدفع هذه الشبهة.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين وتقوى يدفع الشهوات حتى لاينغمس وينطمس وينغمر في المعاصي والفجور، هذا مهم، عنده تقوى ودين وخوف من الله عز وجل. الشرط الثالث: الحاجة، أي أنت محتاج إلى هذا السفر .
ففي قوله «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» الواو هنا ليست للتسوية، لا يجوز أصلا التسوية بين الخالق والمخلوق، أما مسألة الإيمان والطاعة والمحبة يجوز، كأن تقول الإيمان بالله ورسوله كما ذكر الله عز وجل { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله}، وكذلك الطاعة { أطيعوا الله والرسول} هذه جائز الطاعة والإيمان والمحبة لكن مع ذلك تختلف، تختلف الطاعة والمحبة، فهل حب الله مثل حب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ الجواب: لا، حب الله أعظم وحب النبي صلى الله عليه وسلم لايكون كحب الله، كذلك الإيمان، الإيمان بالله يكون بوجوده وبربوبيته وبألوهيته وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يختلف؛ يكون بمعرفة اسمه ونسبه، والامتثال لأمره في ما أمر والانتهاء عن مانهى عنه وزجر، وأن لا نعبد الله إلا بما جاء به عليه الصلاة والسلام، وألا نغلوَ فيه كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم، يقول عليه الصلاة والسلام: «لا تُطْروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» الواو هنا جائزة في الأمور الشرعية، أما في الأمور الكونية فلا، كثيرا مانسمع لولا الله وفلان، أعوذ بالله هذا تسوية مع الله، يقول الله: { تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذْ نُسويكم برب العالمين }، لايجوز لولا الله وفلان، قل لولا الله ثم فلان، ويقول بعض الناس فضلٌ من الله وفلان، أو فضل من الله ومنك، تقول فضل من الله ثم فلان، ولهذا قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم «ماشاء الله وشئت، غضب عليه الصلاة والسلام فقال: أجعلتني لله ندا، بل ماشاء الله وحده» كما جاء في البخاري، وجاء أيضا عند أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: «لا تقولوا ماشاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ماشاء الله ثم شاء فلان»، إذن الوَاوُ -وَاوُ التسوية- في الأمور الكونية لايجوز لأحد أن يأتي بها؛ لأنها تقتضي المشاركة مع الله، أما الإيمان والرضا والمحبة ففي النصوص الشرعية تدل على جواز هذه الواو؛ لأنها لا تقتضي التسوية في هذه الأمور الشرعية، بارك الله فيكم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق