بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
في شرح الأريعين النووية
(الحديث الرابع)
للشيخ يعقوب البنا حفظه الله
في مجموعة : تعليم السنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ويضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله
( يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )
(يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أما بعد: فالحديث الرابع في الأربعين النووية هو حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-؛ يقول : حدثنا رسول الله(، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك.
ثمَّ يُرسلُ إليه الملَك، فينفُخ فيه الرُّوح، ويُؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقِه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيد.
فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل النار فيدخُلها.
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل الجنة فيدخُلها» رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث أصلٌ عظيم في باب القَدَر، وكذلك أن الأعمال بالخواتيم.
يقول –رضي الله عنه-: حدثنا رسول الله(، وهو الصادق المصدوق ؛ الصادق بما يخبر، ويقول فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق إلا بالصدق، كما قال الله تعالى عنه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌّ يوحى( ، المصدوق: أي المصدَّق فعليه الصلاة والسلام لا يقول شيئًا إلا صُدِّق هذا هو الواجب على المؤمن، والمسلم إذا سمع شيئًا من أخبار الرسول( الثابتة والصحيحة وجب التصديق، والتسليم، ولهذا رضي الله عنه قدَّم بمقدمة لأنه سيخبر عن أمر غيبي، وعن أمرٍ باطن يحدث في ظلمات ثلاث وهي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة قال رضي الله حدثنا رسول الله(، وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه» قال يُجمع أي كأنه كان قبل ذلك متفرقًا فجُمع نطفةٍ.
قال عليه الصلاة والسلام (يجمع خلقه في بطن أمه) في قوله ( في بطن أمه ) إشارة لطيفة إلى أن الأصل في الخلق، والتكوين أنه يكون في بطن الأم، لأنه ظهر في هذا الزمان بما يسمى بأطفال الأنابيب . فالأصل في خلق الجنين أنه يكون في بطن الأم .
قال «أربعين يومًا نطفةً» تبقى هذه النطفة أربعين يومًا على ما هي عليها لا تتغير، أي لا تنتقل إلى الطور الآخر إلا بعد الأربعين، لكن تتغير هذه النطفة شيئًا فشيئًا إلى الحُمرة، والنطفة ماء الرجل، وماء المرأة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثم يكونُ علقةً مثل ذلك» أي مثل المدة الأولى في الطور الأول تبقى أربعين يومًا علقةً في هذا الطور . وهذا الطور هو الطور الثاني تتغير العلقة وتثخن وتغلظ شيئا فشيئا ، والعلقةُ: قطعة دم جامدةٌ ، وسميت علقة لأنها تعلق بجدار الرحم .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثم يكون مضغةً مثل ذلك» أي أن العلقة تنتقل إلى طور آخر تكون مضغة تبقى أربعين يومًا مضغةً ا، والمضغة: قطعة لحم سميت مضغة لأنها تكون بقدر اللقمة التي تمضغ، وقد بيَّن الله عز وجل في كتابه هذه المضغة إما أنها مخلقة وإما أنها غير مخلقة كما قال ( فإنا خلقناكم من تراب ثم نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقَّةٍ، وغير مخلقة ) مخلقة: أي أنها تامة وكاملة كاملة الخلق، وغير مخلقة: أنها غير تامة بل هي ناقصة الخلق، ( مخلقة وغير مخلقة ) أي أنها مصورة وغير مصورة لأن في هذا الطور تصور هذه المضغة فيشقُّ الله عز وجل فيها السمع، والبصر، ويخلق جلدها، ولحمها، وعظامها ، فإذا مضى على هذه المضغة أربعون يومًا أرسل اللهُ عز وجل إليها الملك الموكل بالأرحام فينفخ فيه الروح، فإذا نفخ فيه الروح أصبح إنسانًا، ولا يجوز قتله حينئذ بإسقاطه وإجهاضه لا يجوز أبدًا، والأصل في ذلك عدم جواز إسقاط الجنين لا أقول: بعد نفخ الروح فيه، وإنما في مختلف مراحل الحمل؛ لا يجوز اسقاط الحمل هذا هو الأصل، إلا لمبررٍ شرعي، وفي حدودٍ ضيقةٍ جدًا كما قررت اللجنة الدائمة أولا في الطور الأول في طور النطفة الأصل عدم جواز الإسقاط حتى في هذا الطور إلا لتحقيق مصلحة شرعية، أو لدفع ضرر متوقع تقدر كل حالة بعينها من المتختصين طبا وشرعا حينئذ يجوز اسقاطه وإلا فلا يجوز ، فبعض الناس يسقط الحمل في هذين الطورين خشية المشقة في تربية الأولاد، أو الخوف من تكاليف معيشتهم، أو أن الزوجين يكتفون بما لديهم من الأولاد فهذا الإسقاط لا يجوز لهذا المبررات .
ثانيا إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة : فلا يجوز حتى تقرر لجنة طبية موثوقة تبين أن استمرار الجنين في بطن الأم خطر على سلامتها كأن يخشى من هلاكها إذا بقي الجنبن في بطنها وهذا بعد بذل كل الوسائل لإنقاذ الام من الخطر والهلاك .
ثالثا بعد الطور الثالث أي بعد نفخ الروح وبعد مضي أربعة أشهر على الجنين لا يجوز إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه سبب لموتها وذلك بعد بذل جميع الوسائل لإنقاذ حياته وإنما رخص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعا لأعظم الضررين وجلبا لعظمى المصلحتين كما أفتت اللجنة الدائمة .
وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه لا يجوز إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه بأي حال من الأحوال ولو كان بقاء الجنين وخروجه سببا في هلاك الأم
لأن بقاء الجنين على حياته هذا أمر متيَقَن، أما خشية أن الأم قد تهلك وتموت بسب هذا الجنين، فهذا شيء مظنون غير متحقق، فيُقدّم الشيء المتحقق، والمتيقن، على الشيء المظنون، فإذا قال قائل إذا بقي الجنين ماتت الام وإذا أسقط عاشت الأم فالجواب إذا بقي الجنين وماتت الأم فإن هذا بفعل الله عزوجل وليس من فعلنا وأما إذا أسقطنا الجنين فيكون هذا بفعلنا نحن قتلناه بإسقاطه فلا يجوز قتل نفس لإستبقاء نفس هكذا بين رحمه الله تعالى .
وهناك أحكام تتعلق بعد سقوط الجنين :
أولا : إذا سقط الجنين في الطورين الأُوليين: في طور النطفة والعلقة لا يترتب على هذا الإسقاط أحكام بلا خلاف، فتصوم المرأة وتصلي لكن إذا كان معها دم استحاضة فإنها تتوضأ لكل صلاة وأيضا يأتيها زوجُها كأن لم يكن هناك إسقاط
ثانيا : إذا أسقطت الجنين في الطور الثالث في طور المضغة : فننظر هل المضغة مخلقة، أو غير مخلقة؟ هل هي مصورة، أو غير مصورة؟ إذا لم تكن مخلقة ومصورة أي لا يظهر فيها تصوير ظاهر لخلق آدمي، لا يظهر فيها شئ كيد، أو رجل، أو نحو ذلك فيأخذ حكم الأول، لا يترتب عليه شيء من الأحكام ، فتصوم المرأة، وتصلي ويأتيها زوجها ، أما إن كانت مخلقة ومصورة وظهر تصوير ظاهر لخلق آدمي كاليد، والرجل فتأخذ المرأة حكم النفساء وانقضاء العدة .
ثالثا :إذا سقط الجنين بعد نفخ الروح فيه : فله حالتان :
الحالة الأولى : أن لا يستهل صارخًا فله أحكام الحالة الثانية أي إذا كان مضغة لكن يزيد هنا أنه يسمى ويعق عنه ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين .
والحالة الثانية : إذا استهل صارخًا فإنه يأخذ حكم المولود .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ويُؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيد» والكتابة هنا المراد بها الكتابة العُمُرية، لأن الكتابة أنواع:
أولا الكتابة العامة : وهي التقدير العام الشامل لكل شئ كائن إلى يوم القيامة وهومكتوب في اللوح المحفوظ «قال الله عز وجل للقلم: اكتب، قال رب: وماذا أكتب؟، قال: اكتب مقادير كل شيءٍ حتى تقوم الساعة» هذه الكتابة العامة، لا يُزاد فيها ولا ينقص منها ولا يبدل، ولا يغير،
ثانيا الكتابة العُمُرية : وهي في بطن الأم كما في هذا الحديث يؤمر الملك بكتب أربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمره وشقي أوسعيد .
ثالثا الكتابة الحَولية : وهي التقدير الحولي أي ما يُقدَّر في ليلة القدر كما قال تعالى (فيها يُفرق كل أمرٍ حكيم(.
رابعا الكتابة الأسبوعية: وهي كتابة الملائكة على أبواب المساجد يوم الجمعة، كما في الحديث «من راح في الساعة الأُولى فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضةً، فإذا خرج الإمام طُويت الصحف، وحضرت الملائكة يستمعون الذكر».
خامسا الكتابة المستمرة : وهي الكتابة المستمرة في الصحف التي بأيدي الملائكة يكتبون الحسنات، والسيئات من الأقوال والأعمال كما قال الله عز وجل ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد(، وأيضا قال الله تعالى (وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون( .
فيُؤمر بكتب رزقه، فالرزق مكتوب محدود فلا يُزاد فيه درهم ، ولا يُنقص منه درهم واحدا كما بين الني صلى الله عليه وسلم «فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها»، لكن على العبد أن يجمل في الطلب، في طلب الرزق، فيأخذ هذا الرزق بما أحل الله عز وجل من الطيبات، وبكسبٍ مشروع، ويدع ما حرَّم الله عز وجل من كسبٍ خبيث؛ إيَّاك إيَّاك أن تتبع خطوات الشيطان، فلا يطلبن أحدكم رزقه بمعصية الله يقول الله عز وجل (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيءٍ قدْرًا( إذًا هذا أمرٌ عظيم، والله إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله كما جاء في الحديث
والأمر الثاني: يؤمر بكتب أجلِّه (كلُّ نفسٍ ذائقة الموت( كما قال عز وجل فالموت يأتي لكل أحد قد يأتي للصغير قبل الكبير قد يأتي للشاب قبل الشيخ الكبير قد يأتي للصحيح قبل السقيم، إذا جاء الموت فلن يستطع أحد أن يهرب منه كما قال الله تعالى ( فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون( هذا شيء محدود، ومكتوب .
والأمر الثالث يؤمر بكتب عمله من الأقوال، والأفعال، والأعمال كلها مكتوبة فلا يُزاد فيها ولا يُنقص منها هو مخير فيها ليس بمجبور لكن الله كتب الأقوال والاعمال كما قال جلا وعلا ( لمن شاء أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) .
وفي بعض الروايات: «يقول الملك: يا رب! أجلُهُ؟ فيقضي الله ما يشاء، يا رب! رزقه؟ فيقضي الله ما يشاء، يا رب! أذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي الله عز وجل ما يشاء، أشقيٌّ أو سعيد؟ فيقضي الله عز وجل ما يشاء، أسويٌّ أو غير سويّ فيقضي الله ما يشاء» وقد تعلمون أن الله عز وجل اختص علم الأرحام لنفسه كما قال (إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام(.
وهنا إشكال : كيف اختص الله علم ما في الأرحام لنفسه والأطباء يخبرون عن الجنين أنه ذكر أو أنثى
أولا : الأطباء علموا عن طريق الأجهزة الحديثة وهذا مما علمهم الله .
وأيضًا نقول: قبل أن يعلم الأطباء أعلم الله الملك أذكر أم أنثى ، فإذًا خرج هذا العلم من أنه مختص بالله ، لأن الملك علم، وقبل هذه المدة لا أحد يستطيع أن يعلم أذكر أم أنثى أي في الشهر الأول والثاني ، وأيضًا ليس علم الله عز وجل بما في الأرحام مقتصرا فقط على الذكورة والأنوثة ؟، وإنما أوسع من ذلك مثلا هل سيخرج سليما صحيحا سويا وأيضا كم سيعيش وما هو عمله إلى غير ذلك من تفاصيل حياته إذا خرج .
والأمر الرابع شقي أو سعيد فكل منا مكتوب مصيره ومآله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما منكم من نفسٍ منفوسة إلا قد علم الله مكانها من الجنة أو النار، شقيَّة أو سعيدة»
إذًا المصير مكتوب؛ وفلان في الجنة، وفلان في النار. قد يقول القائل: هل هذا من العدل الجواب نعم هذا من العدل لأن الله لا يظلم أحدا فالإنسان له اخيتار في أقواله وأفعاله ليس بمجبر لكن الله علم فكتب، فعلمه واسع فكتب وأيضًا أمر الملَك أن يكتب مصيره هل هو شقي أو سعيد وهو بطن أمه فالعبد لا يعلم مصيره ومآله ولهذا النبي( أمر بالعمل، ولو كان المصير مكتوبا .
فلابد من العمل ولو كتب مقعدك من الجنة أو النار ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: «ما منكم من نفسٍ منفوسة إلا قد علم الله مكانها من الجنة أو النار، شقيَّة أو سعيدة» فقال رجلٌ : إذًا نمكث على كتابنا، وندعُ العمل وفي رواية أفلا نتكل يا رسول الله؟! وفي رواية فَفِيمَ العمل؟! قال عليه الصلاة والسلام: لا. «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة» ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى( للإنسان مشيئة، وإرادة، لكن هذه المشيئة ليست مستقلة، وإنما مشيئة واقعة تحت مشيئة الله عز وجل (لمن شاء منكم أن يستقيم( إثبات المشيئة للإنسان، ولكن هذه المشيئة ليست مستقلة ولكنها تحت مشيئة الله ولهذا قال بعدها (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين( إذًا الإنسان بنفسه يختار طريق الهدى ، أو يختار طريق الضلالة فلا يلومن إلا نفسه .
وهذه الكتابة موافقة لما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ، كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكتب الله عز وجل من هم أهل الجنة، ومن هم أهل النار، بل علم الله عز وجل أزلًا من هم أهل الشقاوة، ومن هم أهل السعادة، ولما خلق الله عز وجل آدم مسح على ظهره فأخرج نسم بنيه، وأخذ عليهم الميثاق، وقبض الله عز وجل قبضةً فقال هؤلاء إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضةً، وقال: هؤلاء إلى النار، ولا أبالي . ولهذا أكَّد عليه الصلاة والسلام أن الإنسان مهما عمل لا بد في الأخير أن يوافق ما قُدِّر له، لا بد أن يوافق العمل ما كتبه الله عز وجل عليه، وما قدَّره عليه، ولهذا أقسم صلى الله عليه وسلم: «فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» قال العلماء هذا مدرج من قول ابن مسعود، والإدراج يحتاج إلى دليل، والأصل أنه من قول النبي(، هذا رسول الله يقسم بالله، يقسم بألوهيته جلا وعلا ، ولنا نحن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة، وقدوة؛ من حلف فليحلف بالله لأن الحلف عبادة لا يكون إلا بالله، من حلف بغير الله فقد وقع في الكفر، والشرك، كما جاء عند الترمذي من حديث عمر ضي الله عنه : «من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك» ، «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» كما في الصحيحين: «من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت»، لا تحلف بالآباء، ولا بالأمهات، ولا برؤوس الآباء والأمهات، لا تحلف بالشرف، والأمانة، ولا بالنعمة، والصحبة، والرفقة، ولا تحلف بالنبي(، كل ذلك من الحلف بغير الله عز وجل ، من الشرك الأصغر، ولهذا يقول عبد الله بن مسعودضي الله عنه : "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا"، لأن الحلف بالله كاذبًا كبيرة من الكبائر أما الحلف بغيره، ولو كنت صادقًا شركٌ أصغر، وإن اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله عز وجل في العظمة، والتعظيم صار شركًا أكبر، فالحذر فالحذر من أن تحلف بغير الله عز وجل، فأقسم النبي(، بالله على أن الإنسان مهما عمل لا بد أن يوافق عمله ما كتبه الله عز وجل عليه.
قال «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها » أي يعمل المرء بعمل أهل الطاعة كل حياته فإذا قرب وجاء أجله عمل بعمل أهل النار فيدخلها فخاتمته سيئة والعكس ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) أي من الناس من عاش على الكفر والشرك ثم من الله عليه قبل أن يموت بالإسلام وهكذا كل من كان منحرفا ثم من الله عليه بالهداية قبل موته كأهل البدع والأهواء وكذلك أهل المعاصي والفجور والناس بالنسبة للبدايات والنهايات على أربع أحوال
أولا بدايات حسنة، ونهايات حسنة أي من كان بدايته حسنة، ونهايته حسنة، عاش على الإسلام، وأتى بأعمال أهل الإيمان، ومات على ذلك وهذا كثير.
ثانيا : من كانت بدايته سيئة، ونهايته سيئة: عاش على ملة الكفر، ومات علىها ، وهذا كثير أيضًا.
لكن النادر ما ذكره عليه الصلاة والسلام:من الحالة الثالثة، والرابعة؛
الحالة الثالثة : من كانت بدايته حسنة، ونهايته سيئة؛ عاش على الإسلام، وأتى بأعمال أهل الإيمان، وفي النهاية انقلبت الموازين أتى بسوء الخاتمة، أتى بعمل أهل النار، وهذا بالنسبة للحالة الأولى والثانية قليل أقل من ذلك .
والحالة الرابعة: بدايته سيئة، ونهايته حسنة؛ عاش على الكفر، والشرك، أو المعاصي، والفجور ثم في النهاية منَّ الله عز وجل عليه بالهداية ، وهذا أكثر من الذي قبله عاش مثلا على البدع ثم ن يموت قبل امن الله عليه بالهداية .
وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة هذه وقائع حدثت في عهد النبي (؛ من حسن الخاتمة وسوء الخاتمة :
أولا: ما جاء في الخاتمة الحسنة ففي البخاري من حديث أنس: كان غلام يهودي يخدم النبي( فمرض «فأتاه النبي( يعوده، ويزوره، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم»، فنظر إلى أبيه، وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، «فخرج عليه الصلاة والسلام؛ يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» في اللحظة الأخيرة قبل أن يموت بشيءٍ يسير منَّ الله عز وجل عليه بالهداية بعد أن كان يهوديًا.
وأيضا جاء رجل مُقنَّع بالحديد إلى النبي(، كما في البخاري من حديث البراء؛ قال: يا رسول الله! أُقاتل، أو أسلم؟ قال عليه الصلاة والسلام: «أسلِم ثم قاتل» فأسلم، ثم قاتل فقتل؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «عَمِل قليلًا، وأُجر كثيرًا» فأول ما دخل الإسلام، نزل ساحة المعركة فقاتل، ثم استشهد، فكان من أهل الجنة .
ثانيا : ما جاء في سوء الخاتمة ففي البخاري ومسلم، وفي أصحاب الرسول الله( رجل لا يترك لهم شاذة، ولا فاذَّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ ما أجزأ فلان، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إنَّه من أهل النار» تعجب الصحابة، واستعظموا الأمر، فقال رجل: أنا صاحبه أبدًا، أي لألزمنَّه، فخرج معه فكلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه حتى أصيب الرجل، وجُرح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت فأخذ السيف فوضعه بالأرض، وذُباب السيف بين ثدييه، وتحامل على سيفه ، فقتل نفسه. انظر قتل نفسه ! فهو مُتوعَّد بالنار، كما جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى (بادرني عبدي بنفسِه حرَّمت عليه الجنة ) وأيضا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ( من قتل نفسه بحديدةٍ، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدً ) . فقتل النفس من كبائر الذنوب، فخرج الرجل إلى النبي(؛ فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وما ذاك» قال: الرجل الذي ذكرته آنفًا فعل كيت، وكيت، فبيَّن عليه الصلاة والسلام: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه، وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
في الحقيقة من يعمل الأعمال الصالحة ثم يختم له بسوء الخاتمة لابد أن في عمله دخن، وسوء نيَّة، تجد أنه عمل لغير الله عز وجل؛ راءى في عمله أراد بعمله السُمعة، والرياء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية : «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس» إذًا هذه الزيادة مهمة، «فيما يبدو للناس» أما من أخلص ، في عمله واستقام وثبت عليه ثبته الله على ذلك حتى يموت . فنقول من حرص على الخير، وداوم عليه نرجو له حسن الخاتمة، لابد أن الله سيوفقه لحسن الخاتمة ولن يخذله يقول الله عز وجل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبُلنا(.
أما الإنسان الذي لا يبالي يفعل المعاصي، ويقول: هذه صغيرة، وهذه ليس فيها شيء، تجد أن قلبه سيقسو، ويكون علي قلبه طبقة تحول بينه، وبين الهدى، كما بين عليه الصلاة والسلام «إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نُكتةً سوداء، فإن تاب واستغفر ونزع، صُقِلت، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبُه فذلك الران الذي ذكر الله عز وجل» فمن أصر على المحرمات نخشى عليه سوء الخاتمة ولهذا يقول الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم(
إذًا الإنسان يختار لنفسه الطريق إما إلى طريق جنةٍ، وإما طريق إلى نار .
أيها الإخوة! في الحديث أيضًا إشارة إلى الخوف، والرجاء، فالمسلم يسير إلى الله عز وجل بين الخوف، والرجاء كالطائر له جناحان فإذا غلب جانبا على جانب هلك فلابد للعبد أن يسير بين الخوف والرجاء ، يخاف من سوء الخاتمة، ويرجو حسن الخاتمة، يخاف من العقاب، ويرجو رحمة الله ، يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ويتعوذ من سوء الخاتمة، هكذا يسير إلى الله تعالى يسأل الله عز وجل دائمًا الثبات على الدين، ويقول في دعائه دائمًا: اللهم مصرّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك، اللهم مثبِّت القلوب ثبت قلبي على دينك، هكذا يكون العبد نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخاتمة وأن يبعدنا عن سوء الخاتمة
بارك الله فيكم، وصلَّى الله على نبينا، وآله وصحبه وسلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق